تفاصيل المقال
عندما يتضخم الإيقاع ويهبط الفن
30-08-2015
حال الموسيقي اليوم في القاهرة
بقلم : الدكتور فتحي الخميسي خبير الموسيقى والاستاذ في المعهد العالي للموسيقى العربية في القاهرة
عندما يتضخم الإيقاع ويهبط الفن
لو أنك سمعت تلك الكلمات : - يا بني فين اللحن ؟ الغناء قليل جدا ! كله طبل ! أنت بدائي خالص ! فإنك لن تنساها أبدا .. كان صديق وصديقته سائرين في شارع معروف في أحداث الثورة المصرية وقالتها الفتاة لصديقها الذي كان يحمل طبلا مدويا لا يقف لحظة عن قرعه وهو يغني. لم تغادر كلماتها الساخرة الذهن أبدا إذ أوجزت وببساطة كل مشاكل موسيقي اليوم بالقاهرة ... لقد قالت له أربعة عبارات كل منها عبرة " فين اللحن .. الغناء قليل .. كله طبل .. هذا بدائي " ولم تكن تتصور الفتاة إلى أي حد أصابت كلماتها الحقيقة ! لم تعرف ساعتها إن في كلماتها تلك تكمن مشكلة التطور الموسيقي الآني .. مشكلة أغنية اليوم "الإيقاعية" مقارنة بأغنية الأمس "اللحنية" .. أنظر معي إلي كل عبارة من الأربعة : " أين اللحن ؟ " وحقا : أين اللحن في أغنية اليوم ؟ إنك إن بحثت اليوم عن اللحن الغنائي فلن تجد منه إلا نتف مبعثرة بينما الإيقاع وصوت الطبول هادر ولا يقف لحظة ! أي أن النغم قليل وضربات الإيقاع كثيرة .. وكنا عند أغنية عبد الحليم حافظ " لايق عليك الخال " أو فايزه أحمد " يا تمر حنة " نكاد لا نلحظ الإيقاع وإنما اللحن والنغم .. وعلى الرغم من وجود إيقاع في الأغنيتين وإيقاع عند حليم وفايزه في كل أغانيهم! لقد كان اللحن يملئ القلوب وانخفض له صوت الإيقاع إلى المرتبة الثانية .. واليوم .. انقلبت الأوضاع رأسا على عقب ! وبداية نضع أيدينا على حقيقة واحدة خاصة بتقسيم الآلات الموسيقية، فالآلات الموسيقية على نوعين : لحنية كالعود وهي التي تأتي بالألحان وإيقاعية كالطبل وتأتي بالإيقاع. " كله طبل ! " إن للإيقاع بوجه عام وظيفة رئيسية فهو منظم للسير – سير النغم – وموحد للسرعة ضمانا لسير كل أجزاء الأغنية بوتيرة واحدة (تسير دقات الإيقاع بسرعة موحدة فينتظم سير النغم وفقا لها) آما الآن فلا يكتفي الإيقاع بكونه ضابطا للحركة بل أصبح هو الرئيسي والأعلى صوتا !! بل أصبحوا ينسجونه هو أولا ثم يرشقونه هنا وهناك بالنغمات القليلة من الغناء ! حتى إن السامع عاد لا يتذكر من الغناء واللحن شيء بعد انتهاء الأغنية. والذي يلحظ الأغاني السريعة لعلاء عبد الخالق مثلا أو أغاني نانسي عجرم مثل " ماشي حدي " وأي من أغاني الإذاعات – مرئية ومسموعة – بالقاهرة سيلحظ على الفور غلبة وعلو صوت الإيقاع علوا يبعث الضوضاء في كل ناحية ! لماذا أصبحت كل أغاني اليوم إيقاعية؟ لماذا أقترن الهبوط الموسيقي بارتفاع شأن الإيقاع ؟ لماذا يستطيع الطبل أن يهبط بالنغم وبالموسيقي كلها إذا ما تصدر الأغنية؟ نعم .. نعم هذه الأسئلة غائبة ولم يطرحها أحد من قبل .. ورغم ذلك فإننا سنظل نحوم حولها ونبحث عن إجابة ! ما من شك في أن الضفيرة الموسيقية في بلادنا مجدولة من جديلتين: اللحن والإيقاع، وتصدير الإيقاع سيعني تهميش اللحن !! أين يمكننا مشاهدة مثل هذه الظاهرة الموسيقية المقلوبة ؟ عند من غيرنا وقع " تصدير الإيقاع " و " تهميش اللحن " هذا ؟ " فن بدائي " وقع ذلك في حياة الإنسان البدائي القبلية والعشائرية حيث كان الإيقاع رئيسي (والطبول من ورائه) وحيث كان اللحن قليل النغمات قصير الحجم يجري وينتهي في لحظات عابرة وكأنه مجرد صرخات مبعثرة. وظاهرة "تصدر الإيقاع" تلك التي ميزت الحياة القبلية قامت عندهم على تعدد الإيقاع أي على تركيب أكثر من إيقاع يصدحون معا في وقت واحد ، وعلى أكثر من نوع من الطبول. ولقد قطعت العصور القديمة (حيث الدول العبودية الأولي مثل الفراعنة والإغريق) الخطوة التالية عندما تطورت الآلات اللحنية وسبقت الإيقاعية فنمت الألحان وأمتد زمنها، ثم قطعت العصور الوسطي بداية بفرنسا في القرن التاسع ميلادي الخطوة الثالثة عندما بدأت الألحان في النمو أكثر فأكثر بفضل ابتكار فن تعدد الألحان وتركيبها (وليس تعدد الإيقاعات) ما جعل الإيقاعات تتراجع عن الصدارة ويبطل تركيبها. وليست الموسيقي السيمفونية الأوروبية سوي نتيجة لنماء الألحان وتركيبها ووصول ذلك حد التقاطع والاشتباك المكثف لتلك الألحان وتبوء الألحان لذلك مركز الصدارة المطلقة . هكذا مضي التاريخ وكل خطوة فيه تفضي إلى مزيد من تطور النغم ومزيد من إخضاع الإيقاع لخدمة النغم والألحان والذي يجري في مصر والبلاد العربية الآن من استنهاض لعنصر الإيقاع وتصدير وتقديم وإعلاء إنما يجري عكس مجري التاريخ الطبيعي للحياة الفنية .. ولابد إن يؤدي السير عكس مجري التاريخ الطبيعي للفن إلى تدهور وتخبط .. والموسيقي لدينا الآن في تدهور وتخبط ! ماذا نري في أغاني اليوم التي تبعثها دور البث من إذاعة وتلفزيون ؟ أنري موسيقي الإنسان البدائي " الإيقاعية " - وأساسها الإيقاع - تصحو وتنبعث وتسير بيننا من جديد ؟ أين اللحن ؟ أين الغناء ؟ آكله طبل ؟ هذا هو الإنسان البدائي د فتحي الخميسي fathimisi@hotmail.com
المزيد من المقالات