يُعد الشيخ سيد درويش (1892-1923) أحد عمالقة الموسيقى العربية في القرن العشرين، وقد ترك آثارا فنية خالدة تتناقلها الأجيال جيلا بعد جيل.
ولد سيد درويش في الإسكندرية لعائلة فقيرة، وبدأ ينشد مع أصدقائه ألحان الشيخ سلامة حجازي والشيخ حسن الأزهري. والتحق بالمعهد الديني بالإسكندرية عام 1905 ثم عمل في الغناء في المقاهي.
ترك دراسته وتزوج وهو في السادسة عشرة من العمر، وصار مسؤولا عن عائلة، فاشتغل مع الفرق الموسيقية، لكنه لم يوفّق، فاضطر أن يشتغل عامل بناء (عامل صبّات)، وكان خلال العمل يرفع صوته بالغناء، مثيرا إعجاب العمال وأصحاب العمل. وصادف في أحد الأيام وجود الأخوين أمين وسليم عطا الله، وهما من أشهر المشتغلين بالفن، في مقهى قريب من الموقع الذي كان يعمل به سيد درويش، فاسترعى انتباههما ما في صوت هذا العامل من قدرة وجمال، واتفقا معه على أن يرافقهما في رحلة فنية إلى الشام في نهاية العام 1908.
وفي العام 1909 تعرَّف سيد درويش بالملا عثمان الموصلي (1854-1923م) في الشام وتتلمذ على يده، وكان عمر سيد درويش سبعة عشر عاما، حيث كان ضمن فرقة عطا الله الغنائية المصرية، وقد مكث سيد درويش في الشام عشرة أشهر. ثم زار سيد درويش لبنان مع فرقة (سليم عطا الله).
وفي العام 1912 قامت فرقة عطا الله برحلتها الثانية إلى الشام، ومكث سيد درويش مع أستاذه الملا عثمان الموصلي قرابة السنتين، وقد أتيحت الفرصة لسيد درويش لتعلم الموسيقى وأصولها بشكلٍ أكبر على يد الملا عثمان وأخذ منه أصول الموشحات التركية والشامية والعربية. وقد ذكر الكاتب المصري محمد علي حماد أن تلك الرحلة كانت حجر الأساس في بناء شخصية سيد درويش الفنية واستفاد كثيرا من أستاذه الملا عثمان.
وعاد سيد درويش من الشام إلى الإسكندرية قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى سنة 1914، وأصبح يغني وينشد في المقاهي والأفراح. وعلى الرغم من ذكاء مؤلفاته، فقد حصل على شهرةٍ محدودة من خلال الغناء في المقاهي، حيث كان حضوره متوسطًا مقارنةً مع النجوم في زمنه مثل "صالح عبد الحي" و "زكي مراد".
ثم ذاع صيت سيد درويش في الأوساط الفنية بالقاهرة، وقَدِمَ الشيخ سلامة حجازي الذي كان ذو شهرةٍ كبيرةٍ ليحضر إحدى حفلاته. فأُعجب الشيخ جدًا بألحانه وصوته، وشجعه على القدوم إلى القاهرة ليقدِّمه للجمهور، لكنهم استقبلوه بالصفير كونه صغير السن، حينها خرج سلامة حجازي وقال لهم بأن هذا الشاب هو عبقري المستقبل.
بعد عودة سيد درويش أصابه حزنٌ شديد بسبب فشله، واستمر بالعمل في الإسكندرية في متجرٍ للأثاث القديم خلال سنوات الحرب العالمية الأولى. ثم انتشر اسمه كثيرًا في القاهرة بأسلوبه الجديد في التلحين، وكانت توجد فرقة الممثل الكبير جورج أبيض الذي طلب من سيد درويش أن يلحن له أول أوبريت باسم (فيروز شاه) ودعاه من الإسكندرية.
وكان العام 1918 نقطة تحولٍ في حياة سيد درويش؛ فبعد الكثير من الإخفاقات في الغناء بالمقاهي، قرّر أن ينتقل إلى القاهرة، حيث تعرَّف على شخصياتٍ مهمة، ولا سيّما نجيب الريحاني، الذي كان يمتلك فرقة مسرح في القاهرة.
ونجيب الريحاني (1889-1949م)، هو مُمثل فُكاهي مصري من عائلة مسيحية عراقية من الموصل؛ ومن هذه العائلة الطبيبة المشهورة سيرانوش ناصر الريحاني (1920-2012). ويُعد نجيب الريحاني أحد أبرز رُوَّاد المسرح والسينما في الوطن العربي عُمومًا ومصر خُصوصًا، ومن أشهر الكوميديين في تاريخ الفُنون المرئيَّة العربيَّة.
التزم نجيب الريحاني بسيد درويش ودعمه، فبدأ اسم سيد درويش يلمع ويزداد إنتاجه، وقام سيد درويش بالتلحين لفرقة نجيب الريحاني وفرقة جورج أبيض وفرقة علي الكسار.
وعقب الحرب العالمية الأولى اندلعت ثورة 1919 في مصر بقيادة حزب الوفد المصري الذي كان يرأسه سعد زغلول، كنتيجة لتذمّر الشعب المصري من الاحتلال الإنجليزي. وبدأت الأحداث في القاهرة والإسكندرية وسقط الشهداء واستمرت الثورة إلى عام 1922. وخلال الثورة سطع نجم سيد درويش كثيرًا عقب غنائه وتلحينه لأغنية "قوم يا مصري" التي حققت شهرةً ونجاحًا لا مثيل له في الشارع المصري.
لقد أدخل سيد درويش الغناء البوليفوني في الموسيقى المصرية للمرة الأولى، حيث قام بتلحين أوبريت "العشرة الطيبة" مع فرقة نجيب الريحاني وأوبريت "شهرزاد والبروكة".
وهناك عددٌ من الألحان التي تألّفت للريحاني أو الكسار، وهي الآن جزءٌ من الفولكلور المصري، ومن هذه الأغنيات "سالمة يا سلامة" و"زوروني كل سنة مرة" و"الحلوة دي" و"اهو دا اللى صار".
ومن أنجح الأعمال التي نتجت عن تعاون نجيب ريحاني مع سيد درويش أغنية
"سالمة يا سلامة" الشهيرة والتي لحنها سيد درويش عام 1919م لرواية "قولوله"، وقدمتها فرقة نجيب الريحاني، وألف كلماتها بديع خيري. وتتحدث الأغنية عن مشاعر المصريين بالغربة أثناء بعدهم عن بلدهم، وعن رضاهم بالحياة سواءً كانوا أغنياء أو فقراء، وعن صبرهم ومثابرتهم في الحرب وسعيهم للسلام.
لقد أعادت غناء هذه الأغنية وأصدرتها مرة أخرى المغنية الإيطالية المصرية داليدا عام 1977م باللهجة المصرية، ثم باللغة الفرنسية، وحققت شهرة واسعة في العالم العربي وأوروبا أكثر من الأغنية الأصلية، فقام العديد من المطربين العرب والأوروبيون بغنائها مرة أخرى بتوزيعات مختلفة. وتم تسجيل الأغنية بخمسة لغات، وغناها العديد من المطربين والفرق الأجنبية، مثل ألابينا، وشانتال شمندي، وجان ميشال جار، وزينت سالي.
وفي العاشر من سبتمبر 1923 رحل سيد درويش وهو في عز الشباب وله من العمر إحدى وثلاثون سنة, والرواية الشبه مؤكدة أن سبب الوفاة هو تسمم مُدبر من الإنجليز أو الملك فؤاد بسبب أغاني سيد درويش التي تحث الشعب على الثورة، رحمه الله.