أغنية (جواد.. جواد مسيَّبي) من روائع التراث العراقي:
الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
يتميز الغناء العراقي بعاطفيته الشجية، وتأثيراته النفسية، وهو الأغنى والأعرق في العالم حتى أنَّ الموسيقار محمد عبد الوهاب قال في إحدى مقابلاته: "كل الغناء العربي يدور في فلك الموسيقى المصرية؛ عدا الغناء العراقي فإنه يدور في فلك خاص به". كما يتميَّز الغناء العراقي بالتنوع وبحيث أن لكل مدينة أو منطقة عراقية خصوصيتها ولون غنائي خاص بها يتقدم على بقية الألوان.
لقد كانت التنزيلات الدينية للملا عثمان الموصلي شائعة كثيرا في أرجاء العراق، وكانت الناس تأخذ القوالب اللحنية لتلك التنزيلات وتنسج على نمطها أغاني شعبية عراقية تُعبر عن الواقع الذي كانوا يعايشوه. فقد حدثني صديق قائلا: "جدي من مواليد 1878م وكان يغني أغنية (ميحانة ميحانة) قبل ناظم الغزالي وبكلمات أخرى تختلف عن الكلمات التي غنى بها ناظم الغزالي هذه الأغنية، فقد كان يردد:
ميحانة ميحانة ....راح (المجيدي) وجتنا (العانة)
و (المجيدي) هو العملة العثمانية، في حين أن (العانة) فهي عملة عراقية عند تأسيس الدولة العراقية وتعادل أربعة فلوس.
جسر المسيَّب:
مدينة المسيَّب من مدن (الفرات الأوسط) وتقع في محافظة بابل، وتطل هذه المدينة على ضفاف نهر الفرات الذي يشطرها شطرين.
تمتاز مدينة (المسيَّب) بموقعها المتميّز، حيث تقع على الطريق الذي يربط بين محافظات عديدة علاوة على امتدادها على نهر الفرات وعلى ضفتيه. كما تمتاز (المسيَّب) بالأراضي الزراعية والبساتين العامرة مما دفع السلطات العثمانية إلى إنشاء جسر خشبي يربط بين جانبي المدينة.
وكان (جسر المسيَّب) الخشبي عبارة عن مجموعة من القوارب الكبيرة، يُطلق عليها اسم (الدوبة)، تُرَص الواحدة جنب الأخرى وتُربط بحبال قوية وتُوضع فوقها الأخشاب الكبيرة التي تتحمل الأثقال وتوثَّق بالمسامير والحبال. وكان العبور على هذا الجسر للأشخاص والحيوانات لقاء أجور زهيدة تؤخذ بنسب متفاوتة إن كانت الحيوانات خيولا أو بقرا أو جِمالا أو حميرا، وكانت هذه الواردات تذهب إلى خزينة الدولة العثمانية.
لقد كانت تدور حول (جسر المسيَّب) قصص عجيبة، فكان في أيام الفيضان؛ ومن شدة جريان الماء وارتفاع منسوبه؛ تتقطع بعض الحبال التي تربط القوارب الكبيرة الرابضة فوقها الجسر، فيجرف الماء القوارب نحو الجنوب، فيعمد الأهالي إلى التجمُّع ويذهبون لسحب وجر الجسر والقوارب إلى مدينة المسيَّب على أصوات الطبول والمزامير والهوسات وسط الهلاهل والزغاريد. وكان الناس يعتقدون أن الجسر قد زعل وهذه الطبول والزغاريد قد اقنعته بالعودة، وهذه الحالة تتكرر كل عام يشتد فيه الفيضان.
تخليد جسر المسيَّب:
يرد (جسر المسيَّب) في كلمات عدد من الأغاني العراقية حتى أصبح هذا الجسر مَثلا يستخدمه العراقيون للدلالة على الضياع: (على جسر المسيَّب سيبوني) لتجانس المعنى اللغوي بين اسم مدينة (المسيَّب) والفعل (سيبوني) والذي يعني (تركوني).
لقد تم تخليد (جسر المسيَّب) وأصبح هذا الجسر يمتلك إرثا تاريخا خالدا من خلال أغنيتين ارتبطتا بحكايات طريفة ومؤثرة، فأصبحت هاتان الأغنيتان نقطتان دالتان على المسيَّب وجسرها: أما الأغنية الأولى فهي أغنية "ميحانة ميحانة…على جسر المسيب سيبوني" التي غنتها صدّيقة الملاية وناظم الغزالي وآخرون.
وأما الأغنية الثانية فهي أغنية "جواد.. جواد مسيبي". وتُعبّر هذه الأغنية عن قصة حقيقية، إذ كان هناك شاب وسيم من مدينة المسيب اسمه "جواد"، فعشقته فتاة كانت تحوم على الجسر رواحا ومجيئا علّها تحظى بنظرة منه، فأصابه إحراج شديد وترك مكانه راكضا وتعرَّض للسقوط أكثر من مرة، ثم ترك مكانه ورحل بعد أن أصيب برضوض.
أغنية تراثية بامتياز:
تعدّ أغنية "جواد.. جواد مسيبي" من الأغاني التراثية المُميزة في الزمن الجميل، وكان لها حضورها الخاص في المناسبات العراقية العامة والخاصة. كما كان لهذه الأغنية حضورها المُميز في الحفل الذي نقلته الإذاعة العراقية بمناسبة عيد ميلاد الملك فيصل الثاني وذكرى التتويج في الثاني من أيار 1954 وقدَّم له المذيع الشهير (قاسم نعمان السعدي) وأحياه مطرب العراق الأول محمد القبانجي (1904 - 1989)، حيث قدَّم فيه مقام الحكيمي مع ركبانية، مقام خنبات، ثم أغنية جواد جواد مسيبي التي يتخللها مقام نوريز، ثم شعراُ و أبوذية.
ويُذكر أن الملك فيصل الثاني قد تُوج على عرش العراق عند إكماله عمر ال 18 في عيد ميلاده في الثاني من أيار 1952 وقد أحيا محمد القبانجي حفل التتويج وقد منح الملك القبانجي وسام الرافدين، حيث ارتجل القبانجي بيتين من الشعر لهذه المناسبة قال فيهما:
لإن حلَّيت صدري في وسام ... كأن ســـــــــناه بدر تمام
فلي يا سيدي شرف عظيم ... يحليني رضاؤك والوصام
أغنية "جواد.. جواد مسيبي" من الأغاني التي تُنسب إلى الملا عثمان الموصلي والتي قد قام بإحيائها الموسيقار العراقي الكبير جميل بشير (1921-1977) من ضمن مجموعة من الأغاني التراثية المُميزة.
أذكر أداء رائع لهذه الأغنية لناظم الغزالي وزوجته سليمة مراد في حفلة خاصة ولكني لم أستطع العثور عليه في النت. وهناك عدد من التسجيلات المتوافرة للأغنية في الإنترنت، منها: