يهجرون البيانو من أجل " البلاليكا "
2015-10-25
د. فتحي الخميسي
يهجرون البيانو من أجل البلاليكا
بقلم الدكتور : فتحي الخميسي
إذا وقع النظر في يوم من الأيام على هذا الخبر :
* أن شباب الموسيقيين الألمان يهجر آلة البيانو
ويصطحب لغنائه " البلاليكا " الروسية *
فإن الموسيقي المحترف لن يصدق كلمة من ذلك ! وسيضرب كفا بكف فهذا أمر لا يمكن تصوره. فالآلات الموسيقية هي القاعدة المادية للنشاط الموسيقي لدي أي شعب، وتختلف هذه القاعدة من شعب لآخر فلكل شعب قاعدته الخاصة (آلاته المحلية) والتي تصدر نغماته الداخلية. وتحيى الآلات الموسيقية عمرا مديدا (دون تغير كبير) وهي تحمل معارف وقواعد الموسيقي الوطنية لهذا الشعب أو ذاك. إنها أدوات العمل الملموسة والباقية في تراب كل أمة وفي آثارها، والمحفور على صدرها ورقبتها – في مواضع الأوتار وثقوب النفخ – كل النغم الذي كان لشعب من الشعوب. إن للآلات الموسيقية خصائص نادرة وفريدة من نوعها فهي أدوات العمل الموسيقي وقاعدته المادية (مصدر الصوت) وخزانة أسراره وعلومه معا .. ولم ولن يحدث في الواقع ولا بأي حال أن يهجر الألماني البيانو إلي "بلاليكا" روسيا .. آما أن يهجر الشاب المصري العود ويتخذ الجيتار الأسباني بديلا فذلك ويا للغرابة أمر يمكن تصديقه! ليس لأنه جائز أو معقول ولكن لأنه وقع ويقع الآن في مصر! وليتها المخاطرة الوحيدة وإنما يهجرون القانون والناي والكمان والدف والرق كذلك (آلات التخت المصري مجتمعة) ليأخذون – إضافة إلي الجيتار – الأورج الكهربائي الأوروبي وطاقم الإيقاع "الدرامز" الأوروبي وآلات موسيقي الكومبيوتر الأوروبية والغربية ! أي يستبدلون فرقة محلية "التخت" كاملة بأخرى أجنبية "الباند" كاملة !
وأمثلة ذلك كثيرة ومنها أعمال "كاريوكي – عايدة الأيوبي" مثل "يا الميدان" على الجيتار، وعلى الجيتار أو الآلات الأوروبية الأخرى قامت أعمال عزيز الشافعي مثل "يا بلادي يا بلادي أنا بحبك يا بلادي" وأغاني أمير عيد مثل " نزلت وقلت أنا مش راجع" وأغلب أعمال ما بعد الثورة.
والحقيقية إن فوضي أدوات العمل (الآلات) لا يمكن إلا أن تكون نذير عواصف شديدة وارتباك طويل المدى .. إنها أدوات إنتاج القيم الروحية للإنسان .. لابد إننا الآن نعبر فترة انتقال كبيرة !
وإذا كانت الآلات الموسيقية هي الحافظ لنغمات الشعوب فإن تركها كلية يعني ترك كل النغم والقواعد المحلية والذهاب لأنغام وقواعد الغير! ورغم إن التاريخ لا يسمح بأمر كهذا وإنما يسمح بإجراء تغيرات على الآلات المحلية بهدف تطويرها فحسب، إلا أن البعض يجهر بحق "استبدال الآلات" كيفما يشاء وينادي بحرية الفنان ! وفي هذه الحالة لابد وأن يقف هؤلاء لمواجهة السؤال:
" لماذا لا يأخذون البدائل من الداخل - من
آلات الموسيقي الشعبية المصرية مثلا ؟ "
لماذا لا يتخذ أحدهم آلة شعبية من الصعيد؟ وكيف لا ينظرون للآلات الشعبية مع إن أغلبها يعاني الآن أزمة انسحاب وتلاش ويالها من كارثة وخسارة قومية ؟ لماذا لا ينظرون للأرغول (من صفارتين طويلتين يلتقيان عن فم العازف) ذلك الدافئ والشجي دفين الصوت، المتواري والذي يكاد يختفي تماما الآن ! لماذا لا ينظرون له بعين الاستنقاذ ؟ أو لشبابة الريف التي تنسحب وتفلت منا لتدخل مرحلة الموات، أو للرباب الذي تضائل عدده كثيرا ؟ أليس الفنان الكبير هو صاحب المهام الكبيرة؟
الثورة في الميدان أمر والثورة في الموسيقي أمر آخر. كيف نحقق الثورة في الموسيقي ونحن لا نري "طنبورة" أسوان و"سمسمية" بورسعيد ولا تعرف أغانينا رباب الفلاح أو "مجرونة" البدو (من صفارتين قصيرتين ملتصقتين يشدهما لبعض رباط) ؟ إلي أين ينظرون ولماذا تمتد أياديهم للخارج مع إن لهم ثروة كبيرة في الداخل؟ كيف ذلك ولمصر ثروة آلية موسيقية لا تعرفها بلاد أخري! كيف ومصر تحتضن أربع بيئات فنية شعبية إلي جانب بيئة المدن حيث تتوزع خمسة أطقم لخمسة فرق آلية موسيقية كاملة! هذه فرقة الصعيد وتلك فرقة الريف والأخرى فرقة أسوان والنوبة وتلك فرقة بدو الصحراء والأخيرة فرقة المدن حيث "تخت" القصبجي والسنباطي ! كيف وفي جعبة فرقنا هذه عشرات الآلات الموسيقية المحلية والوطنية خالصة المصرية ! لماذا لا يرون الآلات الشعبية في أزمات استخدامها وأزمات استمرارها ؟ أينتظرون ضياع كل الآلات الوطنية ؟
فإذا استدرنا نحو آلات أوروبا فسنلحظ إن :
" الآلات الموسيقية لا تهاجر إلا ومعها ألحانها "
والجيتار – المستخدم بكثرة الآن - لن يأتي إلينا دون كامل أنغامه وقواعده الأوروبية, فهل أطل علينا زمن نذهب فيه بكامل قواعدنا إلي أنغام أوروبا ونستبدل مقاماتنا وإيقاعاتنا، آلاتنا وقوالبنا في التأليف دفعة واحدة ؟ وإذا كان مطرب اليوم يستبدل اللغة الموسيقية كاملة فماله لا يستبدل العربية بالإنجليزية للغناء ؟
وأخيرا .. وبعد هذه التضحيات : ما الفائدة التي جنتها أغنيتهم من أغنية أوروبا ؟ هل أقاموا لنا مدرسة موسيقية جديدة واستنقذوا أنغامنا من أزمتها الحالية ؟
فتحي الخميسي
fathimisi@hotmail.com |